الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:فقد سبق لنا أن ذكرنا قول الإمام
الفضيل بن عياض في بيان حقيقة الإيمان والرد على
المرجئة الذي نقله عنه الإمام
أحمد بسنده فيما رواه عنه ابنه
عبد الله في
السنة ، وذكرنا قول الإمام
الفضيل رحمه الله تعالى: إن
أهل السنة يرون اقتران العمل بالإيمان في القرآن موصولاً، وأما أهل البدع فيرونه مقطوعاً أو مفصولاً. والآيات في ذلك كثيرة، منها قول الله تعالى: ((
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ))[البقرة:82]، وقوله: ((
وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ ))[الإسراء:19]، وقوله تعالى: ((
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ))[النساء:124]. يقول: كل هذا موصول، وأهل الإرجاء يقولون: إنه مقطوع، فـ
أهل السنة والجماعة يرون أن الإيمان قول وعمل، وهو في المصطلح المتأخر: حقيقة مركبة من أجزاء، قول وعمل، وليس شيئاً واحداً لا تركيب فيه ولا تبعيض ولا أجزاء كما يقول من خالفهم من
المرجئة من جهة، ومن خالفهم من
الخوارج أيضاً من جهة أخرى. وهذا هو الفرق الجوهري بين
أهل السنة والجماعة وبين غيرهم في مسألة الإيمان، فيرى
أهل السنة والجماعة أنه إذا عطف العمل على الإيمان لم يقتض المغايرة كما يظن
المرجئة ، بل يقولون: العمل جزء منه، ولكن قد يكون العطف لنكتة بلاغية أو لغوية، ولغة العرب واسعة في هذا الباب.فالعطف قد يقتضي المغايرة، كما إذا قلت -مثلاً-: جاء زيد وعمرو، فلا شك في أن عمراً غير زيد، وكذلك إذا قلت: جاء الطلاب والمعلم، فالمعلم غير الطلاب، لكن لو قلت: جاء الطلاب ومحمد -وهو من الطلاب- فالمقصود به أنه خصص لصفة، إما لأنه أعلاهم درجة وإما لأنه الذي سئلت عنه أو ما أشبه ذلك، فهذا في لغة العرب معروف، وهو أنه قد يعطف الخاص على العام والجزء على الكل لحكمة. بل إن هذا في القرآن كثير، وهناك أدلة من القرآن كثيرة، كقوله تعالى: ((
تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ ))[المعارج:4]، والروح من الملائكة، وإنما خصص وأفرد لحكمة؛ لأنه أشرفهم وأفضلهم وأعظمهم قدراً وجاهاً. وقال تعالى: ((
مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ *
وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ))[الفلق:2-3]، والغاسق -وهو الليل- يدخل في المخلوقات، فحكمة تخصيصه بالاستعاذة منه بعد الاستعاذة من جميع المخلوقات هي أن الليل تظهر فيه الأرواح الشريرة الخبيثة كذوات السموم من العقارب والحيات، والهوام، فناسب أن يستعيذ الإنسان بالله تعالى من شر ما خلق عموماً ومن شر الغاسق إذا وقب خصوصاً. ومن ذلك قوله تعالى: ((
مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ))[البقرة:98]، فـ
جبريل من الملائكة، لكنه خصص لأن الآية تتحدث في سياقها عن
اليهود ؛ لأن
اليهود يقولون: جبريل عدونا من الملائكة.وكذلك قال الله تعالى: ((
حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى ))[البقرة:238]، فإن قلنا: إن (الوسطى) صفة للصلاة فمعنى ذلك أن الصلاة الوسطى هي الأفضل والأمثل، فهي تأكيد، وإن كانت الصلاة الوسطى إحدى الفرائض الخمس فذلك دليل على أنها أفضل من الأربع. فإذا جئنا إلى قوله تعالى: ((
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ))[الشعراء:227] فقالوا: هذا مقطوع؛ قلنا: فكيف تصنعون بما في سورة العصر، حيث قال تعالى: ((
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ))[العصر:3]؟!فإن قيل: إن التواصي بالحق والتواصي بالصبر داخل في العمل الصالح، قلنا: فكذلك العمل الصالح داخل في الإيمان، فيكون تعالى قد ذكر الكل، ثم ذكر جزءاً منه مهماً، ثم ذكر جزءاً مهما من هذا الجزء، ومن ذلك قوله تعالى بعد أن أمر بإقامة الصلاة: ((
وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ))[البقرة:43]، فيمكن أن يكون عطف (اركعوا) على (أقيموا) من أجل الجماعة، فيكون أمر بالصلاة أولاً، ثم أكد على أن تكون جماعة ثانياً.وكذلك قوله تعالى: ((
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ))[الفاتحة:5]، فالاستعانة داخلة في العبادة، لكن أفردت لحكمة، كما في رسالة
العبودية لشيخ الإسلام
ابن تيمية رحمه الله، فهما من باب العلة الغائية والعلة الفاعلة، فالعبادة هي الغاية، والاستعانة هي السبب الموصل إلى الغاية، فنفرد الله تبارك وتعالى بالغاية، فهو المراد المعبود وحده، كما نفرده بالاستعانة، وهي الوسيلة التي نصل بها إلى المراد والمعبود سبحانه وتعالى. وهذا كثير جداً حتى فيما هو معلوم عند الناس جميعاً، كما في قوله تعالى: ((
إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ ))[الأحزاب:72] والجبال هي من الأرض، وهكذا.وكذلك ذكر الأنبياء، فقد جاءت آية فيها ذكر الأنبياء ثم ذكر إبراهيم عليه السلام، فقال تعالى: ((
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ))[النساء:163] ثم قال تعالى: ((
وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ ))[النساء:163]، ثم قال تعالى: ((
وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا ))[النساء:163] فذكر الأنبياء عموماً ثم خصص، وهذا أيضاً كثير لحكمة، فهذا -إن شاء الله- لا إشكال فيه. يقول الإمام
الفضيل في ذكر العمل معطوفاً على الإيمان: (هو موصول مجتمع) أي أن الإيمان حقيقة مركبة، فالعطف دلل على أهمية المعطوف، وليس على أنه خارج عن المعطوف عليه، قال: (وأهل الإرجاء يقولون: هو مقطوع متفرق). ثم قال: (ولو كان الأمر كما يقولون لكان من عصى وارتكب المعاصي من المحارم لم يكن عليه سبيل، فكان إقراره يكفيه عن العمل، فما أسوأ هذا القول وأقبحه، فإنا لله وإنا إليه راجعون). فهو قول قبيح لأن الإنسان قد يرى أنه أتى بالإيمان وإن لم يعمل على زعمهم، فهذا قول قبيح، وأثره سيئ في حياة الإنسان وفي عبادته.